الصحيفة الإخبارية – Corporate Communications
اقتصادية ثقافية-
التصنيفات
القاهرة التاريخية عاصمة للثقافة الإسلامية.. ماذا بقي منها؟
ورث المماليك الدولة الأيوبية، وخلال قرنين ونصف قرن تمكن المماليك البحرية والجراكسة من إنشاء ثروة معمارية فريدة في قلب القاهرة، وما زال كثير منها شامخا يتحدى الإهمال وعاديات الزمان.
تعد العاصمة المصرية القاهرة من أهم المدن التراثية وأكثرها تأثيرا في العالم، لما تضمه من آثار تمثل مختلف العصور القديمة والإسلامية، وكان أولها مسجد عمرو بن العاص؛ أول مسجد بُني في قارة أفريقيا، والأزهر الشريف الجامع والجامعة، وقلعة صلاح الدين، بالإضافة إلى آثار أخرى عديدة تنتمي لعصور مختلفة.
واختارت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) القاهرة عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي للعام الحالي 2022، مبررة هذا الاختيار “بأنها تلك المدينة الساحرة التي تحكي شوارعها وجدرانها تاريخ شعب مصر وحضارته العريقة التي أثرت البشرية على مر العصور؛ فهي من أكثر المدن تنوعًا ثقافيًا وحضاريًا، وتوجد فيها العديد من المعالم القديمة والحديثة، فأصبحت متحفًا مفتوحًا يضم آثارًا فرعونية ويونانية ورومانية وقبطية وإسلامية”.
وتمثل القاهرة القديمة نموذجا فريدا ومتنوعا للمعمار الإسلامي، قل أن يوجد هذا التنوع في أي مدينة أخرى في العالم، ولكن “آفة حارتنا الإهمال”، كما يقول أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس حسام إسماعيل للجزيرة نت- حيث شكلت القاهرة نمطا فريدا من أشكال الاستيطان البشري يمزج بين الاستخدامات الدينية والعمرانية السكنية للمكان.
ويتابع إسماعيل “ويبدو هذا واضحا في القاهرة التاريخية التي ولدت مع الفسطاط (641-750 )، ونمت مع العسكر (750-868 م)، والقطائع (868-905م)، وانطلقت مع تأسيس الفاطميين لها (969 واستمرت حتى الآن)”.
المماليك
عاشت القاهرة عصرا ذهبيا خلال حكم المماليك (1250-1517 م)، وهي الدولة التي خرجت من رحم الدولة الأيوبية وقامت على أنقاضها، بعد وفاة الناصر صلاح الدين.
ورغم ما أخذ عليها من استبداد وصراعات دموية وفساد، فقد كانت دولة المماليك البحرية والمماليك الجراكسة دولة بناء وتشييد؛ فأهم وأضخم المنشآت المعمارية التي تعود إلى الحقبة الإسلامية في مصر ترجع إلى ذلك العصر، وإذا كانت مدينة القاهرة وضواحيها تحفل بالعمائر والمنشآت التي تبقت من عصر المماليك، فإن معظمها منشآت دينية؛ كالمساجد والمدارس والخانقاوات، أو منشآت حربية كالقلاع والحصون، فضلا عن الوكالات والحمامات.
ومن ضمن منشآت هذه الحقبة مسجد السلطان حسن، الذي يوصف بأنه درة العمارة الإسلامية بالشرق، أنشأه السلطان الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون في الفترة من 757هـ/1356م إلى 764هـ/1363م خلال حقبة حكم المماليك البحرية.
وهناك أيضا نموذج خان الخليلي كرمز لعمارة الأسواق المملوكية، حيث يبلُغ عمر الخان 600 عام، ويعد من أقدم الأسواق في الشرق الأوسط، وما زال مُحتفظًا بمعماره القديم منذ عصر المماليك.
وجاء العثمانيون فقضوا على دولة المماليك في موقعتي مرج دابق والريدانية عامي 1516 و1517، وإن استمر المماليك في الحكم (عمليا) تحت راية العثمانيين، حتى جاء محمد علي باشا وقضى عليهم في مذبحة القلعة.
متحف مفتوح
وكان لهذا التنوع الكبير في السياسات والرؤى المتباينة بين الأجناس المختلفة أن تركت كل عاصمة من ورائها تراثا ضخما، تحولت القاهرة معه إلى متحف كبير مفتوح يعيش البشر في كنفه وأحضانه؛ فهناك خانات وحمامات وبيمارستانات تبلغ أعمارها مئات السنين، وما زال الناس يسكنونها.
وفي عام 1979 أدرجت القاهرة التاريخية على قائمة التراث العالمي، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بناءً على توصية المجلس الدولي للآثار والمواقع.
ويقول الدكتور حسام إسماعيل “كان إدراج القاهرة على قائمة العواصم الإسلامية من قبل الإيسيسكو فرصة تاريخية، كان لا بد من اقتناصها للحفاظ على ما هو موجود من تلك الآثار، ووضع خطة لتحويل العاصمة إلى متحف مفتوح، ومزارات سياحية، فكل شارع وعطفة وزقاق بمثابة متحف يجب ترقيته وتحويله لمزارات، بدل الاحتفالات والندوات والأغاني والأفلام”.
قرافة الأولياء
ويتابع إسماعيل إن “قرافة (مقابر) القاهرة التاريخية تستحق أن تكون مزارا عالميا، بما فيها من جثامين فقهاء وعلماء كبار، وبما فيها من رؤساء وزعماء، وكذلك مدافن أسرة محمد علي، هذه القرافة كانت قبلة لكثير من المستشرقين الذين كتبوا عنها كتبا قيمة.
ويعدد إسماعيل مقابر وأضرحة العلماء في قرافة القاهرة، ومنهم ضريح الصحابي عقبة بن عامر، ومسجد وضريح الصحابي مسلمة بن مخلد الأنصاري في مصر القديمة، وضريح الإمام ابن حجر العسقلاني العالم والمحدث والفقيه والمفسر المعروف، وقبر العالم الحسن بن الهيثم عالم الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك وصاحب كتاب “المناظر”.
ويوجد بالقرافة أيضاً قبر العالم الليث بن سعد فقيه مصر المعروف بمنطقة الإمامين، وقبر العالم أبو جعفر الطحاوي، وعبد الرحمن بن خلدون المؤرخ صاحب المقدمة ذائع الصيت بمنطقة العباسية، وقبر عبد الرحمن الكواكبي العالم الحلبي مؤلف كتاب “طبائع الاستبداد” الشهير.
وهناك أيضا قبر العالم الكبير محمد بن سيد الناس المغربي الأندلسي صاحب كتاب “النفح الشذي في شرح صحيح الترمذي”، والعالم الكبير الأزدي الأندلسي عبد الله بن أبي جمرة، والصوفي المعروف ابن عطاء الله السكندري صاحب “الحكم العطائية”.
مدينة أصحاب النبي
ولكن ماذا تبقى من تلك العواصم التي مرت بتاريخ القاهرة من الفسطاط وحتى العثمانيين؟
يرى خبير التراث الدكتور خالد عزب -في تصريحات للجزيرة نت- أنه “لم يكن حظ العواصم القاهرية كلها متماثلا، ما تبقى من بعضها لم ينبئ عن تاريخها وشخصيتها، إلا من خلال بعض الآثار المتناثرة والمندثرة”.
ويتابع “لم يتبق من الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص سنة 21 هـ سوى مسجده الشهير، هذا المسجد الذي شارك في تشييده جمع كبير من كبار الصحابة رضوان الله عليهم. قال المقريزي: إنهم 80 رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وغيرهم رضي الله عنهم”.
وازدهرت الحياة في الفسطاط -حسب عزب- فكانت مركزا رئيسيا للتجارة البحرية الخارجية، وفي العصر الفاطمي ازداد شأنها لاتصالها بالقاهرة مقر الخلفاء الفاطميين، ولوقوعها على طرق الدلتا والصعيد وثغور مصر المختلفة، وأصبحت الفسطاط ميناء للتجارة القادمة من الصين والهند واليمن وأوروبا، كما أصبحت المركز الرئيسي لحركة النقل المائي، ولم يتأثر مركز الفسطاط التجاري في عام المجاعة والشدة التي حدثت في عصر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي.
ويستطرد خبير التراث والمتحدث الإعلامي السابق لمكتبة الإسكندرية قائلا “جاء أحمد بن طولون وبنى مدينة القطائع سنة 256هـ/ 870م على جبل يشكر (الذي يعرف بقلعة الكبش) بين الفسطاط وتلال المقطم”.
وبعد وفاة أحمد بن طولون تولى ابنه خمارويه الحكم، واستعاد العباسيون سيطرتهم على مصر من جديد، ولم يتبق من الطولونيين سوى مسجد أحمد بن طولون.
ميلاد عاصمة
وعقب وفاة كافور الإخشيدي بسنوات قليلة، استطاع القائد جوهر الصقلي وزير الخليفة المعز لدين الله الفاطمي فتح الإسكندرية عام 969م، وأعلن سيادة الخلافة الفاطمية على البلاد والتي استمرت في مصر نحو قرنين من الزمان (969-1171 م )، ثم دخل المعز لدين الله الفاطمي القطائع، وأعلن تأسيسه القاهرة لتكون عاصمة مصر التاريخية، حسب عزب.
وتمكن صلاح الدين الأيوبي من القضاء على الفاطميين، وقام بتوحيد مصر والشام، وامتد حكمه إلى مناطق شمال النهرين دجلة والفرات، ثم قاد الحرب ضد الصليبيين، وتمكن من تحرير القدس عام 1187 في موقعة حطين.
وبدأ صلاح الدين بناء القلعة عام 527 هـ/1176م، ولكن لم تكتمل فى حياته، وافتتحت رسميا عام 1208م.
وورث المماليك الدولة الأيوبية، وخلال قرنين ونصف قرن تمكن المماليك البحرية والجراكسة من إنشاء ثروة معمارية فريدة في قلب القاهرة وما زال كثير منها شامخا يتحدى الإهمال وعاديات الزمان.
خلال فترة الحكم العثماني -التي بدأت عام 1516م- عاشت مصر معزولة عن العالم، ولم تستيقظ إلا على ضربات الحملة الفرنسية 1798، لكن الفرنسيين لم يلبثوا إلا 3 سنوات لتبدأ مرحلة اليقظة مع حكم محمد علي، إلا أن المستعمر البريطاني سرعان ما احتل مصر بدءا من عام 1882 تاركا أحلام “الباشا” في مهب الريح.
القاهرة الخديوية
“رحل الخديوي.. ولكن أعماله ما زالت باقية”. بهذه الجملة بدأت أستاذة التصميم العمراني بكلية الهندسة جامعة القاهرة سهير حواس حديثها للجزيرة نت حول “القاهرة الخديوية”، التي أنشأها الخديوي إسماعيل مع توليته الحكم سنة 1863 وأطلقوا عليها اسم “الإسماعيلية”، وكان يحلم بأن تكون مصر ” قطعة من أوروبا ” و”عاصمة للعالم”.
ويأتي تخطيط القاهرة الخديوية صورة طبق الأصل من مدينة باريس الفرنسية، حيث الميادين التي تتفرع منها الشوارع مثل مروحة.
وتضيف حواس “ورسم الخديوي إسماعيل حدود القاهرة الخديوية في النصف الثاني من القرن 19، حيث تمتد من ميدان العتبة حتى ميدان الإسماعيلية (التحرير)، ومن ميدان عبد المنعم رياض حتى شارع التوفيقية. وتشمل هذه المنطقة الشوارع الحالية (فؤاد وعبد الخالق ثروت، وسليمان باشا”.
وضمت القاهرة الإسماعيلية عددا من أجمل القصور ذات الحدائق الواسعة، فكان قصر الأميرة شويكار (مجلس الوزراء حاليا)، وقصر الدوبارة ( مدرسة الدوبارة)، ومكان السفارتين الأميركية والبريطانية كان في قصرين كبيرين، فضلا عن قصر حسن باشا صبري رئيس وزراء مصر الذي تمت إزالته وأقيم مكانه أحد الفنادق الكبرى.
وبعد خلع الخديوي إسماعيل أنشأ ابنه الخديوي توفيق منطقة التوفيقية، ثم جاء الخديوي عباس حلمي الثاني وأعلن عن مسابقة لإنشاء المتحف المصري الحالي، وبنى العمارات الخديوية في عماد الدين.
ويبقى أن السنوات الأخيرة شهدت جدلا كبيرا بشأن هدم العديد من المعالم التاريخية من أجل بناء طرق وجسور جديدة تخفف الزحام المروري الذي تعاني منه القاهرة التي بات يسكنها ما يزيد على 20 مليون نسمة، وهو أمر لقي انتقادا كبيرا ممن يعتقدون أن الحفاظ على هذا التراث يدخل ضمن الضرورات، وأنه لولا هذا التراث لما كانت للقاهرة هذه المكانة.